وسط أزقة مدينة تونس العتيقة، حيث يمتزج عبق التاريخ بنبض الثقافة، اجتمع عشاق السمر في بطحاء الحلفاوين لمتابعة عروض الدورة الثالثة من تظاهرة “تجليات الحلفاوين” (14 – 18 مارس 2025)، التي ينظمها المسرح الوطني التونسي بالشراكة مع جمعية عبد الوهاب بن عياد ومؤسسة “ميكروكراد”، تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية. وقد كانت الليلة الثالثة من هذه التظاهرة استثنائية إذ تمازج فيها الألم الإنساني بالسحر المسرحي، حيث استهلت السهرة بعرض في مسرح الشارع حمل عنوان “مخيّم اللاجئين” تبعه عرض ثان لمسرحية موجهة للأطفال بعنوان “ملكة الليل”.
وفي فضاء مفتوح حيث لا حدود بين الخشبة والجمهور، نصبت مجموعة من الشباب عددا من الخيام والصور، مجسدين واقعا قاسيا تعيشه المخيمات الفلسطينية. وهذا العرض “مخيّم اللاجئين”، من إخراج طلال أيوب وإنتاج جمعية ثقافة وفنون سهلول بحمام سوسة، كان تجربة مسرحية تفاعلية هزت مشاعر الحضور، حيث استند الممثلون إلى شهادات حية للاجئين فلسطينيين وأبيات من شعر أمل دنقل ويحيى اللبابيدي ليجسدوا معاناة سكان المخيمات.
هذه المسرحية التي حازت على جائزتي “أفضل سينوغرافيا” و”أفضل إخراج” ضمن مسابقة مسرح الشارع في الدورة 34 للمهرجان الوطني لمسرح الهواة، قدمها فريق شاب مكون من لينا زيد وسارة سليمان ويوسف بن خليفة وهاجر بيار وميسم بن خليفة وملاك الجليدي وأمين السعيدي وآمنة الصحراوي وميلاد هاشم وتقوى النجيمي وعزيز السعيدي ومؤمن مرزوقي، فجسدوا بأدائهم المتقن مشاهد الجوع والقصف والخوف والمقاومة في وجه الاحتلال، ليؤكدوا رسالة التضامن مع غزة في مواجهة الإبادة الجماعية.
وكانت لحظات العرض مشحونة بالوجع الإنساني والتعاطف مع أهالي فلسطين حيث صفق الجمهور الذي أحاط بالممثلين بحرارة وحماس في ساحة العرض وبدا جزءا من المشهد الدرامي، فهتف بالحرية لفلسطين متأثرا بصوت الباحثين عن حياة وسط ركام البيوت وبحكايات العائلات التي وجدت نفسها بين مطرقة الحرب وسندان اللجوء.
“ملكة الليل”: مغامرة مشوقة للأطفال
وانتقل الحاضرون إلى عالم الحكايا مع مسرحية “ملكة الليل”، اقتباس وإخراج حاتم مرعوب عن قصة “المزمار السحري” لإيمانويل شكاندر. وقد كانت المسرحية رحلة خيالية أخذت الأطفال إلى مملكة سحرية مليئة بالمغامرات، حيث تكتشف الأميرة “بامينا” حقيقتها بعد أن كبرت معتقدة أن “ملكة الليل” هي والدتها.
وعبر مشاهد مفعمة بالحركة والمغامرات، تابع الأطفال بشغف محاولات الأمير “تامينو” لإنقاذ الأميرة من براثن “ملكة الليل”، مستعينا بصديقه “باباجينو” والمزمار السحري. وحملت المسرحية في طياتها قيما إنسانية حول الحب والوفاء والشجاعة حيث جسدت الصراع بين الخير والشر في إطار درامي مشوق يناسب خيال الأطفال.
ورغم اختلاف طبيعة العرضين، إلا أن القاسم المشترك بينهما كان دور المسرح في نقل الرسائل الإنسانية العادلة، فكما حمل “مخيّم اللاجئين” رسالة صرخة ألم من المخيمات الفلسطينية، كانت “ملكة الليل” نافذة للأطفال نحو قيم الحب والشجاعة والعدالة.
وقدمت “تجليات الحلفاوين” نموذجا للتنوع المسرحي بين مسرح الشارع التفاعلي والمسرح الطفولي الخيالي. وقد كان العرضان ببطحاء الحلفاوين حيث امتزج دفء المكان بسحر الفن بمثابة مرآة تعكس هموم الواقع من جهة ونافذة نحو الخيال والأمل من جهة أخرى. وبين صرخات اللاجئين وسحر الحكايات، ظل الجمهور مشدودا مدركا أن المسرح هو صوت للمهمشين وحكاية تُروى بكل لغات الفن والإنسانية.