تظاهرة “الخروج إلى المسرح”: مسرحية “ما يراوش” لمنير العرقي .. أو حين تدرك أن البصيرة أهم من البصر

لم تكن الأجواء عادية قبل عرض مسرحية “ما يراوش” مساء الاربعاء 20 سبتمبر ضمن فعاليات اليوم الثاني لتظاهرة “الخروج الى المسرح”، حيث ساد الهدوء قاعة المبدعين الشبان في دقيقة صمت على روح المسرحي والعرائسي الأسعد المحواشي أو سيّد الدمى وعاشقها الذي كان الغائب الحاضر عن هذا العرض ، وبكلمات مؤثرة جدا نعت الممثلة جميلة الشيحي والمخرج محمد منير العرقي الراحل الأسعد المحواشي المشرف على ورشة صنع العرائس المحمولة لمسرحية “ما يراوش”، قبل أن يكرّم السيد محمد الهادي الجويني مدير مسرح أوبرا تونس عائلة الفقيد ويتم عرض شريط مسجل لآخر حوار أجري معه قبل رحيله يوم 8 سبتمبر الجاري .

في فضاء معتم يكتسيه الضباب، تنبعث موسيقى تحاكي أصوات الطبيعة خرير المياه، حفيف الأشجار، فجأة يقتحم المكان مجموعة من فاقدي البصر “العميان” لينطلق العرض برقصة فوضوية يتخبط خلالها الممثلون بعصيّهم البيضاء في محاولة لاكتشاف المكان، يرتفع صوت الموسيقى الممزوج بالدعاء والمناجاة ..  الليل يرخي سدوله والعميان في غابة موحشة وغريبة في مكان ما من جزيرة نائية يسترقون السمع ويستدلون بما تصلهم من أصوات، ضجيج لم يتعودوا على سماعه..

متى يعود المرشد؟  أين اختفى لقد أصر على إخراجهم بنية التنعّم بدفيء الشمس قبل أن يحلّ فصل الشتاء، المرشد

وعدهم بشمس وشاطئ وضفاف لكنه تغيب فجأة ولم يعد..  غربة وضياع ..  تتزاحم الأسئلة وتتدافع ..

لماذا أخرجهم من التكيّة ؟ كيف سيستدلون طريق العودة ؟  من ينقذهم من وحوش الليل وقد غابت الشمس وحل الصقيع وهاج البحر وتساقط الثلج وعصفت بهم الرياح ؟

عديدة هي الأسئلة التي يضعنا أمامها العرض العرائسي “ما يراوش” منذ البداية، فعلى امتداد أكثر من ساعة، يقدم هذا العمل نقدا ومساءلة للواقع في أبعاده الاجتماعية والفكرية والسياسية من خلال شخصيات فاقدة للبصر في احالة لعديد الثنائيات منها النور والعتمة، السراب والحقيقة والانتصار والاستسلام  .

 

مسرحية “ما يراوش” موّجهة للشباب والكهول ومقتبسة عن نصّ “العميان” للكاتب البلجيكي موريس ماترلينك المتحصّل على جائزة نوبل للآداب عام 1911 ، وهي من إنتاج المركز الوطني لفن العرائس، عن نص ودراماتورج وإخراج محمد منير العرقي، وتمثيل وتحريك العرائس لكلّ من هيثم وناسي، فاطمة الزهراء المرواني، أسامة الماكني، هناء الوسلاتي، أسامة الحنايني، ضياء المنصوري، إيهاب بن رمضان، أميمة المجادي، محمد الطاهر العابد وعبد السلام الجمل، عن سينوغرافيا لحسان السلامي، وكوريغرافيا لحافظ زليط.

إعداد وتلحين الموسيقى لأسامة المهيدي،  وتكفّل عبد السلام الجمل بتصميم العرائس والملابس.

 

في هذا العمل المسرحي خلق منير العرقي علاقة تكامل وانصهار بين الممثل المسرحي الحي وشخصية العروسة أو الدمية المحمولة الجامدة، حيث يعجز المشاهد أحيانا عن التمييز بين “الماريونات” والممثل المحرّك من شدّة التماهي بينهما وقدرة الممثلين على تحريكها وبعث مجموعة من الاحاسيس والانفعالات من خلالها، فتارة نجد العروسة ومحركها شخصا واحدا، وأخرى يظهر الممثل كمؤديا دون أن يختفي وراء الماريونات، وأحيانا ينشب جدالا بين الممثل والعروسة .

نساء ورجال عميان، منهم من ولد أعمى ومنهم من فقد بصره في طفولته، ومنهم من فقد بصره بالرشّ في اشارة الى أحداث الرشّ التي عاشتها بلادنا سنة 2012، اما ام الرضيع “خضراء”  التي فقدت بصرها وعقلها في نفس الوقت جراء تعرضها للاغتصاب فقصتها تحمل في طياتها اكثر من دلالة وتأويل فقد تكون المرأة المغتصبة التي تواجه نظرات المجتمع لها كمذنبة وليست كضحية وقد تكون الوطن المغتصب …

جميعهم ينتظرون المرشد ويحلمون بالعودة الى التكيّة الملاذ الآمن لهم رغم وصفها من قبل أحد العميان بأنها خرابة موحشة مظلمة تحيطها الأوحال من كل مكان، فهل العودة والبقاء في الظلام أضمن من الحرية والخروج الى النور ؟ وهل اختيارهم لقائد مبصر أفضل من تحكيمهم لبصيرتهم؟ هي حيرة العاجز الذي لا يجد لنفسه مخرجا .. ألم يكن بإمكانهم معرفة طريق النجاة ؟ لماذا لم يحاول أي منهم أن يعول على نفسه، و الاّ ينساق وراء المرشد بعينين مغمضتين ؟

هذه هي جملة الاشكاليات التي تطرحها مسرحية “ما يراوش” كيف نكتسب الوعي؟ وكيف نكف عن التذمر من القوى الطبيعية وكيف نجادل المرشد الدليل المسؤول وصاحب السلطة؟ متى نثور على الوضع لأن حياتنا متعلقة ومتوقفة على ذلك؟ كيف نكون؟

“ما يراوش” مسرحية حبلى بالرسائل المشفرة وبعيدة كل البعد عن المباشرتية هي انعكاس لواقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي  .

في هذا العمل العرائسي لعبت المؤثرات الصوتية  دورا هاما و كشفت الحالة النفسية للشخصيات الخائفة من مواجهة المجهول حيث كان بإمكان العميان الاعتماد على حاسة السمع للخروج من الجزيرة والتعرف على المكان من خلال تلاطم الأمواج وصوت دقات الساعة والأصوات الآتية من بعيد وهو دليل على أننا أحيانا نرفض الرؤية بأي حاسة أخرى، اما الاضاءة فكانت بدورها رمزية، تخفت أحيانا وتنير أخرى في اشار ة الى ثنائية العتمة والنور.

يستمرون في حيرتهم وخوفهم، حتى يقودهم الكلب إلى جثمان المرشد، عاد المرشد الراعي جثة هامدة بل انه لم يغادرهم قط ولكن عميهم حال دون معرفتهم ذلك ..  فيتملكهم الرعب من المجهول، ثم يحاولون الاستدلال بالطفل الوحيد الذي يرى، لكنه عاجز عن الكلام  .. الأمل يكبر مع طفل رضيع يرى القادم وبإمكانه مواجهة المصير.

Related posts

يعرض في رمضان: “مليحة” مسلسل مصري عن القضية الف..لسط..ينية

قبل الأولى

تسليم ثلاث وحدات إذاعية متنقلة لفائدة الاذاعات التونسية

Halima Souissi

الممثل الإيراني مصطفى زماني يشارك في الدورة الثانية للمهرجان الوطني للمسرح التونسي ” مواسم الإبداع “