خمسة أشخاص تطفوا أجسادهم على سطح البحر، صوت تلاطم الأمواج .. مشهد موحش تقطعه نشرات أخبار بلغات مختلفة تعلن عن غرق مركب يحمل على متنه “حراقة”، تقارير اخبارية يتخللها بكاء وعويل العائلات ومطالبتهم بجثث المفقودين ومعرفة مصير أبنائهم …
بهذه المشاهد استهلت مسرحية L’ALBATROS أو “النورس” للشاذلي العرفاوي عرضها الأول وهو عمل من انتاج مسرح أوبرا تونس وأداء كل من فاطمة بن سعيدان وعبد القادر بن سعيد وعلي بن سعيد ومريم بن حميدة وملاك الزوايدي،تم تقديمه في افتتاح الموسم الثقافي 2023ـ 2024 ضمن فعاليات الدورة الرابعة لتظاهرة ” الخروج الى المسرح” التي تنتظم من 19 الى 24 سبتمبر 2023 تحت شعار “الخروج الى المسرح …الخروج الى الحياة”ّ.
ونذكر أن المسرحية قدمت في جزأين ، جزء أشرف عليه اخراجا وأداء الفريق التونسي الآنف ذكره، أما الجزء الثاني فمن اخراج الإيطالية Cinzia Maccagnano ومن انتاج Teatro Stabile Catania ويأتي هذا العمل في اطار مشروع “أكاديميا” التونسي ـ الإيطالي .
L’ALBATROS مسرحية تطرح موضوع “الهجرة غير النظامية” لكن برؤية جديدة وغير مستهلكة، هي حكاية خمسة أشخاص و سادسهم زورق من ورق صغير حطمته أمواج البحر المتلاطمة، ومن الموت والعدم تنتفض هذه الشخصيات وتنبض أجسادها لتتخذ المسرحية منحى تصاعديا .. تدب الحياة من جديد. إنهم يتكلمون .. يرقصون.. يغنون ويسردون تفاصيل المغامرة إلى الضفة الأخرى، رحلة البحث عن المفقود رحلة ذات أبعاد عميقة رغم بساطتها في الشكل .
في هذا العمل يتداخل الاجتماعي بالسياسي وتعود بنا الشخصيات الى أحداث عاشتها بلادنا إبان الثورة أهمها قوارب الموت وحلم الهجرة الذي قضى على المئات من الشباب والعائلات، نسترجع ما شهدته السواحل التونسية خلال عامي 2011 و2012 من فواجع بحرية خلفت العديد من الضحايا، وكيف تعاملت الجهات الرسمية مع هذه الأحداث بكل استهتار ولامبالاة مما أدى الى انتفاض الأهالي ، صور ومشاهد قدمها المخرج الشاذلي العرفاوي بطريقة كاريكاتورية لا تخلو من كوميديا سوداء .
في L’ALBATROS تروى لنا ” زعرة” أم الشهيدين مبروك وخليفة السلطاني كيف قرر ابنها الثالث الزاهي اجتياز الحدود خلسة بعد أن فقد الأمل ، زعرة الأم الثكلى التي ترفض تعويض الحكومة تحكي كذلك قصتها مع شاحنات اللاعودة وكيف تواجه الفلاحات خطر الموت يوميا، وبين واقعها المرير ومصير ابنها الغامض “تحترق” أحلام زعرة وتصرخ بكل حرقة معبرة عن صراعها الداخلي .
وبهاتفها توثق نجيبة الصحفية قصص “الحراقة”، وتروي بدورها حلمها بانجاز تحقيق صحفي يتحول الى قضية رأي عام لكن حلمها يتبخر ويتحطم مع تحطم الزورق الورقي، كاميرا نجيبة تسلط الضوء على قصة شاب ورحلته من تونس الى صفاقس ومنها الى “لامبادوزا” حيث تم القاء القبض عليه وإعادته الى بلاده وكيف اضطر الى امتطاء قارب الموت مجددا بحثا عن شقيقه المفقود .. ودون الحاجة الى كلام تروى احدى بطلات العمل قصة المرأة الحبلى التي تلتحق “بالحراقة” بحثا عن زوجها المفقود ليفاجئها المخاض وهي على قارب الموت .
وفي مشهد شدّ كل الحضور قدم عبد القادر بن سعيد جزءا من مسرحية ” العاصفة” ل”شكسبير” التي عالج فيها قضية القدر والإرادة الإنسانية ولئن انتصرت قوى الخير في مسرحية شكسبير فإن نهاية أبطال مسرحية L’ALBATROS لم تلق نفس المصير، حيث كان البحر أرحم بهم من واقعهم .
في L’ALBATROS راوح الشاذلي العرفاوي بين الحضور الركحي المتميز للممثلين والصورة التي رافقت المسرحية طيلة العرض من خلال شاشه خلفية وبين الموسيقى والرقص والمؤثرات الضوئية، ليغوص في العوالم الخاصة لشباب بات مروره الى الضفة الأخرى من أكبر هواجسه لتتجلى على الركح قضايا الشباب الآن وهنا في طرح اجتماعي وجمالي على حد سواء.
أما الجزء الثاني من مسرحية L’ALBATROS فكان من نصيب الفريق الإيطالي الذي روى على مدار 45 دقيقة قصة مجموعة من الأشخاص يقودهم أحد الفنانين في رحلة البحث عن المنشود و عن حياة أفضل بخليج الأحلام أو الملاذ الآمن الذي طالما طمحت إليه البشرية، مسرحية تروي كيف يجبر البعض على مغادرة بلدهم بحثا عن ظروف معيشية أفضل، سواء الذين يغادرون بلدانهم في اتجاه ايطاليا التي تمثل الحلم المنشود أو أولئك الذين يغادرون ايطاليا بحثا عن الحياة الأفضل وأحيانا بحثا عن السلام .