أصالة المسرح الأثري بدقة ومحاولات التجديد الفني للمشروعين كانتا الرابط الأكبر بين عرض الفنانة المورتانية نورة منت سيمالي والفنان التونسي نال يحياوي، في ليل تقاسماها مع قمر حرص على أن يتابعهما من عل.
نصف السهرة الأول استهلته نورة بقصيد في مدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام من شعر حسان ابن ثابت الذي يقول فيه: “وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني…وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ”، لتهدي الجمهور لاحقا مجموعة من الأغاني.
انطلقت لاحقا في أداء أغان لم يكن حاجز اللهجة عائقا أمام الجمهور ليتفاعل معها رقصا وتصفيقا على غرار أغنة “هببب” و”ريشة الفن” للفنانة الموريتانية الراحلة ديمي منت آب وغيرها، فلم يزل الوضع بين غناء ورقص حتى انتهى الجزء الأول من حفل أشبه بحلم.
تزاوج نورة بين موسيقى الأجداد ذات ألحان الصحراء والطوارق وبين موسيقى الروك التي تحلق بها نحو العالمية دون التخلي عن وتد الأصالة، فهي وإن طغى على الركح عازفون على آلات غربية: الجيش ولد شغالي على الغيتار الكتريك وعصمان توري على الباص وماثيو تيناري على الدرامز، فقد كانت آلة “آردين” عروس الآلات تستمد قزتها من تاريخها وخاصة من عزف نجمة السهرة عليها.
فهي آلة تعزفها النساء فقط، وهي الآلة الموسيقية الأغنى وتريّاً، ويشكّل عزفها تحدّياً كبيراً، فهي بحاجة إلى الخبرة الكافية لاستخدامها واستنطاق جميع أوتارها الطربية العذبة، وتتكون هذه الآلة من قدح كبير يُصنع من الخشب، وتركَّب به عصاً طويلة أفقية، ويُقسَم القدح إلى نصفين، ثم تُشَدّ الأوتار بين العود والقدح عن طريق مفاتيح تُرَكَّب بالعمود لضبط الصوت والتنقل بين المقامات، ويغطَّى القدح الدائري بالجلد ليُستخدم كطبل، فتغني الفنانة وتعزف الأوتار وتضرب الدف في نفس الوقت.
وتُصنَع آردين محلِّيّاً على يد الصناع التقليديين، وكانت أوتارها قديماً تؤخذ من ذيل الخيل قبل اكتشاف ووصول الأوتار الموسيقية المعروفة اليوم.
محملة بكل هذا الزخم وبثقافة ثرية وقفت نورة صادحة بصوت قوي يروي ثقافة بلاد شنقيط الزاخرة بمليون شاعر على ركح اثري جميل مقدمة عرضا موسيقيا منوعا بين الصحراوي والبلوز والروك والروحي كأنما الموسيقى جمل يشق الصحراء إلى ما وراء البحار.
وفي الجزء الثاني من السهرة قدم الفنان التونسي نضال اليحياوي آخر ما أنجز من أعمال موسيقية، مشروع حمل اسم “مسرب الهطاية” الذي يقتفي فيه أثر العمال الموسميين، و”الهطاية” هم بدو رحل يجوبون المناطق بحثا عن المرعى لمواشيهم و الأماكن الخصبة التي يمكن أن يستقروا بها لمدة من الزمن ثم يغادرونها نحو وجهة أخرى..
يروي نضال موسيقيا حكايا هؤلاء الذي لا يستقر بهم حال، فلا أرض دائمة تقلهم ولا سماء دائمة تظلهم، وبين هنا وهناك تنشأ الحكايا، خاصة قصص الحب التي لا تنسى.
وعلى ركح دقة وأمام جمهور عارف بالهطاية وتفاصيلها عبر ما يرويه لهم آباؤهم وأجدادهم، كان الجمهور نجم السهرة غناء ورقصا وزغاريدا واعطى للفنان طاقة جعلته يصدح قويا بأغان يحفظ كلماتها عن ظهر قلب غرار ” سوق وربص”، و”ساق” و”ناسك رحالة”وهز عيونك” و”ساقوه”…
اليحياوي نجح على أصعدة شتى، نجح في أن يكون بمثابة وزارة المحافظة على التراث، وهو الذي يقتفي منذ سنوات آثار التراث اللا مادي المتناثر في ربوع شتى، جمعا في مشاريع متنوعة على غرار “برقو 08″، “شاوية”… يلتقي كبار السن الذين لا يزالون يحفظون تلك الأشعار وألحانها، يوثقها ويعيد نشرها من جديد بأسلوب عصري.
لقد نجح أيضا في جمع موسيقيين حول مشروعه الفني، اجتمعوا ليستحضروا أغان تراثية طرزوها بأنماط موسيقية جديدة لم تنل من جوهرها التقليدي، وهو ما ترجمه تفاعل الجمهور إلى آخر لحظة من الحفل.