متجاوزة النص القانوني المنظم لعملها: لجنة التحاليل المالية رأس الحربة الخطير في يد اللوبيات

خليفة الدلالي

أحدثت اللجنة التونسية للتحاليل المالية وفق القانون عدد 75 لعام 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال  الذي أسند لها إلى جانب صلاحياتها العامة في المجال، تلقي التصاريح حول العمليات والمعاملات المسترابة أو غير الاعتيادية وتحليلها والإعلام بمآلها  وذلك مع إمكانية الإذن مؤقتا للمصرح بتجميد الأموال موضوع التصريح ووضعها بحساب انتظار. وتم تعديل ذلك القانون وفق الأمر الحكومي عدد 1098 لعام 2016 ليتم منها سحب اصدار القرارات المتعلقة بتجميد الأموال إلا أن الواقع عكس ذلك تماما حيث مازالت هذه اللجنة تتصرف عوض السلطات القضائية بل في تجاوز صريح لهذه السلطة لتقرر اللجنة تجميد أموال هذا ورفع التجميد عن ذاك ليس وفق قوانين واضحة ومضبوطة بل للأسف الشديد وفق مكلمات هاتفية لا تستند إلى منطق إلا منطق تصفية الحسابات لا غير.

لا تستفيد الساحة المالية الرسمية في تونس، وفق الاحصائيات الرسمية، من حوالي نصف التدفّقات المالية بالعملة الأجنبية الواردة نقدا، حيث تشقّ مبالغ طائلة طريقها بمجرّد دخولها تونس نحو سوق الصّرف السوداء قبل أن تغادر خزائن الصرّافين الناشطين خارج القانون باتّجاه دول الجوار أو يتمّ استثمارها في الاقتصاد الموازي، بالإضافة إلى المساهمة في تمويل الإرهاب والأنشطة غير القانونية، برغم تنفيذ لجنة التحاليل المالية لـ “عمليّة حنّبعل” التي رفعت الستار عن ضعف استقطاب المسالك الرسمية للصرف مقابل تعاظم نفوذ سوق الصرف الموازية. 

هذا الضّعف في استقطاب القنوات الرسمية للتدفّقات النقدية للعملة الأجنبية ليس سوى الشجرة التي تخفي غابةَ الصّرف الموازي، حيث تشهد الساحة المالية التونسية تفاقم نشاط الصرف الموازي وعمليات التهريب وغيرها من الجنح الديوانية والصرفية ذات العلاقة بالتهرّب الديواني والصرفي على اعتبار أنّ نسبة 42 % من تدفقات العملة الأجنبية المصرّح بها لدى الديوانة  وفق مخرجات عملية حنّبعل لا يتمّ دمجها بالساحة المالية الرسمية التونسية ليتم  توجيهها نحو تمويل الاقتصاد الموازي والأنشطة غير الشرعية المتّصلة به كالجريمة المنظّمة والإرهاب والتهريب ليفلت حوالي 1.7 مليار دولار سنويا من خزائن تونس على شاكلة تدفقات مالية غير شرعية، يمرّ جزء منها عبر المؤسسات البنكية من خلال الاستناد إلى فواتير ووثائق مفتعلة بعضها لا يخلو من بصمات مسؤولين رفيعين في البنوك.

كل ذلك مر أمام أعين لجنة التحاليل المالية ولم تحرك ساكنا ليضيع على تونس ما يزيد عن ربع المبلغ المطلوب من صندوق النقد الدولي لتهتم هذه اللجنة فقط بالمستثمرين التونسيين فتضيق عليهم الخناق وليتها تتحرك وفق أذون قضائية أو أن تترك الأمر برمته إلى القضاء ليقرر ما يراه صالحا وفق القانون بل تستبق القرارات القضائية والأبحاث وفق قاعدة المتهم مدان ومطارد ومعطل في رزقه ورزق عماله وعائلاتهم إلى أن يتم رفع القرار عنه بنفس المكالمة الهاتفية الواردة على اللجنة والتي أمرتها بتجميد حساب هذا أو ذاك.

لم نسمع كذلك يوما أن اللجنة التونسية للتحاليل المالية تحركت لتقوم بفتح تحقيق حول مكاتب توطين المؤسسات التي تؤوي عددا كبيرا من الشركات المصدرة كليا المبعوثة من قبل الأجانب خاصة على شاكلة صناديق بريد بتونس ليس لها من نشاط سوى تبييض الأموال والجرائم الجبائية وتنمية التحيل الدولي وتنمية الفساد المرتبط بالصفقات التجارية الدولية من خلال بيع الفواتير الصورية أو قبض رشاوى رغم أن هذه الشركات تزايد عددها في تونس بشكل لافت وأسماؤها مسجلة لدى الهيئات المعنية بالاستثمار وبقليل من التنسيق كان يمكن ضبط هذه الشركات التي تتخذ من بلادنا ملاذا للإعفاء من الضرائب كما يبيحه قانون التشجيع على الاستثمار في تونس دون أن تستقطب هذه الشركات استثمارات حقيقية بل هي تشتغل لفائدة دول أخرى في شمال البحر المتوسط دون أن يعود دولار واحد من نشاطها إلى خزائن الدولة التونسية.

قد نجد الف عذر وعذر لعدم قدرة لجنة التحاليل المالية على التحرك لوضع حد لكل تلك لتجاوزات بحكم الفوضى السائدة في الإدارة التونسية وتسلل أباطرة الفساد إليها للتحكم في مفاصلها لكن أن تصبح اللجنة التونسية للتحاليل المالية “ذراعا” لتلك اللوبيات وتتحرك وفق أوامرهم فتصدر الأحكام وتنفذها قبل أن يبت القضاء في الامر فهذا هو الخور بعينه .. لقد صارت لجنة التحاليل المالية تتحرك خارج القانون حيث بمجرد مكالمة هاتفية يتم تجميد حساب شخص ما والغريب أن كل ذلك يتم واللجنة تدعي أنها تعمل بالتنسيق مع القضاء وتحيل إليه القضايا التي ترصدها أو التي هي محل شبهة ولكن دون أن تنتظر إذنا من القطب القضائي المالي تقوم بتجميد حساب أي شخص ثم تدعي أن القضية صارت من اختصاص القضاء وأنها محل بحث ناسية انها نصبت نفسها محل السلطة القضائية ولم تنتظر ختم الأبحاث لتقوم بتجميد الحسابات وإن أثبت القضاء براءة أصحابها فلا تخسر اللجنة شيئا حين تقول لهم “سامحونا لقد اخطأنا” .. هكذا بجرة مكالمة هاتفية ولن اللجنة صارت أداة بيد أطراف معينة يتم العبث بمصالح المواطنين فتعطل مؤسساتهم وتجعل الفقر والقلق رفيقا لهم دون إذن قضائي مستغلة في ذلك غياب  نصوص قانونية واضحة تنظم عملها إذ أنها تتصرف وفق قانون قديم تم تنقيحه ولكن اللجنة لا تعترف بذلك التنقيح متخذة تعلة لكل تلك التجاوزات أنها تتوقى من الأخطار المحدقة بالبلاد ولا ندري أي خطر يشكله مستثمر وفق اللجنة حتى وإن ارتكب تجاوزات مالية فالقضاء وحده مكلف البت فيها كما أن الخطر الوحيد الذي يستدعي تجميد الحساب هو الخطر الأمني كان يكون غطاء لعمليات ارهابية أو تهريب ممنوعات إما غير ذلك من المخالفات المالية فلا يشكل أي خطر وكان الأفضل في ظل طول إجراءات البحث القضائي في بلادنا أن لا يتم تجميد الحسابات المالية لأنها ستكون مدخلا لمراقبة من هو محل شبهة معرفة تعاملاته ومع من يتعامل أما إن تم تجميد الحساب فإن من كان محل شبهة سيغير طرقه في التعامل ويأخذ كامل احتياطاته فلا تستفيد الدولة ولا تستفيد العدالة ولا يستفيد  المواطن لأن من تم تجميد حساباته سيقفل كل مؤسساته ويوقف كل نشاطاته ويحيل عماله على البطالة وعائلاتهم على الفقر المدقع.

إن العمل بالتعليمات لا يمكن إلا أن يكرس سياسة الإفلات من العقاب ويدفع إلى تغول اللوبيات المتحكمة في لجنة التحاليل المالية وفي اقتصاد البلاد لأن من سيشعر أن مصالحه ستتعطل يدخل بيت الطاعة بالضرورة ويصبح جزء من تلك اللوبيات على الأقل تطبيقا لشعار “ابعد على الشر وغنيلو”.

من الغبن أن تتحول لجنة عهد إليها حماية اقتصاد البلاد لجذب المستثمرين إلى سيف في يد فئة لا تريد الخير إلا لأعضائها ممن تحوزوا ثروات البلاد وصار المتحكم الأول في كل قراراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل صاروا يتدخلون حتى في ثقافة الشعب من خلال فرض نمط معين للتفكير والسلوك وتنخرط اللجنة في كل ذلك مانحة لنفسها صلاحيات من يخولها لها القانون فتوجه ضربة لهذا أو ذاك فقط لأن اللوبيات شعرت أنهما يشكلان خطرا عليها وعلى مصالحها حتى إذا ثبتت البراءة يكون ذلك بعد مدة ويكون الشخص المعني تعرض للعقاب اللازم الذي قررته له اللوبيات والمنطق يفرض إما أن تتريث اللجنة وأن تلتزم بلعب دورها كلجنة اقتصادية لا علاقة لها بالقضاء وأنها تحيل مخرجات تحرياتها إلى السلطات القضائية لمتابعة الأبحاث والتقصي لمعرفة الحقيقة دون أ ن تبادر اللجنة بتجميد أموال هذا أو ذاك إما واللجنة طرحت نفسها بديلا عن القضاء فالواجب يحتم على السلطات المحمول عليها إقامة العدل في البلاد أن تقدم التعويضات اللازمة لكل من تضرر باطلا بقرارات لجنة التحاليل المالية ليتمكن من التعويض لعماله ممن توقفت مصادر أرزاقهم عن العمل وحرموا من جراياتهم لفترة حتى تنتهي لوضع الاجتماعي التعيس الذي تم وضعهم فيه وفقا لأهواء المتحكمين في لجنة التحاليل المالية.

Related posts

طقس اليوم: تتواصل الحرارة في نفس مستويات بدايةالأسبوع

root

بدعوة من رئيس الجمهورية : الرئيس الفسطيني في تونس غدا الثلاثاء

root

سياسيون وناشطون في ‘مواطنون ضد الانقلاب’ يدخلون في إضراب جوع من بينهم المرزوقي

root