منذ إطلالته السينمائية الأولى، أثبت علاء الدين سليم أنه ليس مجرد مخرج، بل هو باحث بصري يسائل الواقع من زوايا غير مأهولة، متوغّل في عوالم معزولة ومسكونة بالهامش والاختفاء. بعد “آخر واحد فينا” (2016) و”طلامس” (2019)، يأتي بفيلمه الجديد “أقورا” (2024)، ليؤكد مسيرته في تفكيك المسكوت عنه عبر سرد بصري مشحون بالرموز والأسئلة.
الفيلم، الذي تم عرضه لأول مرة في قاعة “الريو” بالعاصمة التونسية، هو إنتاج مشترك تونسي–فرنسي–سعودي، ويُعرض تجارياً في القاعات بداية من 16 أفريل الجاري.
غموض الظهور… وصمت لا يشرح شيئاً
ينطلق “أقورا” من فرضية غرائبية: ثلاثة أشخاص يُفترض أنهم توفّوا قبل سنوات يعودون إلى مدينتهم الصغيرة في ظروف مبهمة. لا تفسير لعودتهم، ولا حديث يفسّر حضورهم الصامت. بدلًا من أن يكونوا محور تحقيق بوليسي تقليدي، يصبح وجودهم بحد ذاته سؤالًا كبيرًا: كيف يعود الموتى؟ ولماذا الآن؟ لكن الأهم: ماذا يعني هذا الظهور للجماعة التي أرادت نسيانهم؟
هؤلاء “الراجعون” لا يبحثون عن عدالة أو انتقام، بل يُجسدون ما تم دفنه قسرًا تحت عباءة النسيان الجماعي. هم ماضٍ يعود لا ليستعاد، بل ليكشف ما تم إنكاره. إنهم الذاكرة حين ترفض الطمس.
مدينة بلا حوار، وساحة مغلقة
بعيدًا عن المعنى التاريخي لـ”أقورا” كساحة للنقاش الحر في الثقافة الإغريقية، تحوّلت المدينة في الفيلم إلى مساحة للانفصال والارتباك. السلطة، بكل وجوهها – الأمنية، الدينية، والإدارية – تظهر عاجزة، مرتبكة، أو متواطئة. لا أحد يعرف كيف يتعامل مع عودة الموتى، فتصبح المدينة أشبه بكائن حيّ مأزوم، يخاف من ماضيه أكثر مما يخاف من الحاضر.
شخصيات تبحث عن منطق
يقدم الفيلم شخصيات تعيش على حافة الفهم: محقق أمني (ناجي القنواتي) لا يبدو صارمًا بقدر ما هو تائه، طبيب (بلال سلاطنية) يقارب الحدث برؤية أكثر إنسانية لكنها عاجزة، محقق مركزي (مجد مستورة) يصل بثقة باردة تتلاشى سريعًا، وطبيبة رسمية (سنية زرق عيونه) تحاول إغلاق الملف باسم النظام.
كلهم يسعون إلى “احتواء” ما لا يمكن احتواؤه، وبدلاً من طمأنة الناس، يتحولون إلى أدوات تكشف فشل السلطة في مواجهة الحقيقة.
رمزية الحيوان… ومنطق ما بعد الواقع
في عالم “أقورا”، لا يتوقف الواقع عند البشر. الحيوانات تتكلم وتلاحظ وتشارك، لكنها أكثر حكمة. الكلبة الزرقاء والغراب الأسود هما شاهدا عصر، يراقبان عبث الإنسان، ويشهدان على تكرار الأخطاء باسم الدين، القومية، أو حتى البيروقراطية. هما ليسا رمزين فحسب، بل فاعلان في عالم يسقط فيه الإنسان، وتبقى الطبيعة أكثر ثباتًا.
الفيلم كمرآة لذاكرة موجوعة
يتعامل الفيلم مع الذاكرة ككائن متمرد: لا يمكن السيطرة عليه أو دفنه بسهولة. فالعائدون من الموت هم مجاز لجراح مفتوحة في الوعي الجمعي – ضحايا للهجرة غير النظامية، الإرهاب، أو الاستغلال الطبقي. قصصهم ليست خيالية، بل مستوحاة من واقع لم يُحاسب، من ملفات أُغلقت بلا مساءلة.
في هذا السياق، تصبح السلطة – سواء كانت دينية أو سياسية – متواطئة في الإنكار. رجل الدين يبدو عاجزًا، بينما تتصرف السلطة السياسية كآلة باردة، لا تفهم، بل تخنق الحقيقة.
أسلوب بصري متأمل… وإيقاع يحمل التوتر
جماليًا، يستمر علاء الدين سليم في استخدام أدواته السينمائية الخاصة: كاميرا بطيئة، لقطات طويلة، حوار مختزل، وإيقاع أقرب للتأمل منه إلى الحدث. لا يمنح المشاهد يقينًا أو لحظات استراحة، بل يدفعه للغوص في عمق التساؤلات، دون أن يفرض عليه إجابات.
” حيث ترحل الذاكرة إلى مكان آخر”
ينتهي الفيلم برحيل الكلبة والغراب، باتجاه فضاء آخر أكثر هدوءًا. هناك، تلد الكلبة جراءها، وكأن المخرج يوحي بأن الذاكرة لن تموت، بل ستجد مكانًا آخر لتولد من جديد. هو انسحاب رمزي من مكان فقد أهليته للتاريخ، واستسلام أمام عبث لم يترك للوعي مكانًا.
بهذه النهاية، لا يقدم “أقورا” حلاً، بل يزرع سؤالًا: هل يمكن للمجتمع أن يدفن ماضيه، أم أن الأشباح ستظل تعود، لتذكّر الجميع بما تم إنكاره؟