بعد سنتين من دخول البلاد في الفترة الاستثنائية التي غيرت النظام السياسي الذي كان قائما و استبدلته بآخر، يبدو الوقت قد حان إلى مباشرة اجراءات استثنائية مشابهة للقضاء على اقتصاد الريع الذي فتك بالبلاد و احتكر مقدراتها.
وبعد تشكيل البرلمان الجديد و مباشرته لمهامه، مازالت الانتظارات واسعة نحو تركيز بقية مؤسسات الجمهورية الجديدة، و التي من شأنها أن تنزل احكام الدستور الجديد على أرض الواقع.
المسار السياسي يستأثر بالاهتمام
ويمكن القول أن المسار الذي دخلت فيه تونس منذ نحو سنتين، قد ركّز الاهتمام بالاساس على المعطيين القانوني والسياسي، حيث كان لابد من فتح جملة من المسارات القانونية لوضع حد للمنظومة السياسية السابقة و التأسيس للمنظومة الجديدة، فخصص كل الوقت لتنظيم الاستشارة الوطنية و لصياغة الدستور الجديد و المصادقة عليه باعتماد الاستفتاء الشعبي و اجراء الانتخابات التشريعية لمجلس نواب الشعب في دورتين علاوة على عدد من المحطات الاخرى من بينها حل المجالس البلدية و استبدالها بادارات مؤقتة يسهر عليها الكتاب العامون للبلديات.
و قد لاحظت العديد من القوى السياسية و المدنية المساندة لمسار 25 جويلية، في العديد من التصريحات، أن هذا المسار قد ركّز الاهتمام على كل ما هو سياسي و دستوري، مقابل عدم الاكتراث كثيرا بالمعطى الاقتصادي، الذي يمثل الملفين الاقتصادي و الاجتماعي و ما يتضمنانه من مطالب عالية السقف، تم التعبير عنها في ثورة 17 ديسمبر -14 جانفي لكنه لم يتم تلبيتها و اعيد طرحها في احتجاجات 25 جويلية 2011 و التي استجاب لها رئيس الدولة قيس سعيّد بتلك الاجراءات و التدابير الاستثنائية التي اتخذها بناء على تأويل خاص للفصل 80 من دستور 2014 الذي وقع الغاؤه في ما بعد.
ومن مظاهر طغيان اقتصاد الريع و هيمنته الواسعة، هو تعويض ضعف الأجور في القطاعين العام والخاص بدعم المواد الاستهلاكية الأساسية، خاصة المواد الغذائية وذلك على حساب فئة صغار الفلاحين دون المجموعة التي تموقعت في مسالك التصدير والتوريد والتوزيع والصناعات الغذائية. أما المحروقات، فقد تم تحرير أسعارها تزامنا مع تدهور قيمتها في الأسواق الخارجية تطبيقا لإملاءات صندوق النقد، وستعرف لا محالة ارتفاعا كبيرا خارجا عن كل سيطرة.
محاربة اقتصاد الريع متى ؟
و من ضمن المحاور الاساسية في الملفين الاقتصادي والاجتماعي و اللذين لم يتم التعاطي معهما بشكل جدي حتى الآن اقتصاد الريع الذي نادت العديد من القوى بمحاربته منذ سنوات غير أن شيئا لم يتحقق في هذا المسار.
وإن يعد مطلب محاربة اقتصاد الريع مطلب العائلة اليسارية بالاساس، الا أن هذه العائلة السياسية لم تبذل الكثير من النضال لتفعيل هذا المطلب، بقدر انغماسها في الصراعات الايديولوجية و اهتمامها بالاستقطاب الثنائي بين الحداثة والرجعية و غيرها من الشواغل التي حالت دون الاهتمام بالملفات و القضايا الجدية.
و يقصد بالانظمة الريعية في الاقتصاد تلك الانظمة التي ترتكز على موارد وفيرة للاستغلال على غرار النفط او الغاز و غيرها، غير أن النظام الريعي في تونس يرتكز على مراكمة الربح مع استغلال القرب من السلطة في الفترات السابقة لاحتكار قطاعات واسعة من طرف مجموعة محدودة في الدولة.
وقد أتت العديد من الدراسات و التقارير على ظاهرة اقتصاد الريع في تونس و اثاره على الاقتصاد ككل، حيث اضحت حلقة ضيقة من رؤوس الاعمال منشغلة بتحقيق المراكمة السريعة للربح و الحفاظ على مواقعها في العديد من مؤسسات و منظومات الانتاج، كما استطاعت هذه الحلقة الضيقة على امتداد عقود من توجيه السياسات العمومية المالية و التنموية والتحفيزية و الحمائية التي تتحكم في العلاقات الاقتصادية، بغض النظر عن تغيير الانظمة و الحكومات .
و لان هذه الحلقة الضيقة كانت و لا تزال ذات نفوذ عال وهي التي تمتلك أكبر حصة من الثروة فإن الحديث عن الحد من نفوذها كان أقرب إلى الهزل في الفترات السابقة، وسط الحديث عن وجود تداخل بين رجال الاعمال و عالم السياسة في تونس و وجود مصالح مشتركة ادت إلى قيادة بعض التنظيمات السياسية من قبل شبكات مصالح و نفوذ.
و لمّا كانت اجراءات 25 جويلية 2021 قلبا للطاولة على الاوضاع السائدة، و مطمحا لتأسيس جمهورية جديدة تنتفي فيها صور الاستغلال و الهيمنة في كل المجالات برز مطلب محاربة اقتصاد الريع في سلم أولويات هذا المسار، حتى أن العديد من اعضاء مجلس نواب الشعب قد ادلوا بتصريحات في سياق الاعداد الى مقترحات قوانين تفكك هيمنة اقتصاد الريع على الاقتصاد التونسي بنحو تدريجي الى جانب الاجراءات و التشريعات التي من الممكن ان تتخذها الحكومة و السلطة التنفيذية بشكل عام.
و لما اقتضت الحاجة السياسية فرض التدابير الاستثنائية في المجال السياسي بنوع من قوة فرض الواقع فإن التدابير الاستثنائية في المجال الاقتصادي التي من شأنها محاربة اقتصاد الريع تبدو ليست في حاجة الى منطق القوة بقدر حاجتها الى قوة المنطق، ذلك أن أهم محور في هذا المهمة يتعلق بثورة تشريعية تفكك مجالات استفادة اقتصاد الريع وتضرب الشرايين التي تمده بالطاقة مقابل وقوع عموم الشعب في ضنك العيش.